فصل: (فرع: المسح على الخف المغصوب)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: شأن من مسح حضرًا ثم سافر]

وإن لبس الخف في الحضر، ثم سافر قبل أن يحدث، ثم أحدث في السفر، فله أن يسمح مسح مسافر، بلا خلاف، لأن ابتداء مدة المسح وابتداء فعله وجد في السفر.
وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل أن يمسح، وقبل أن يخرج وقت الصلاة، ثم مسح في السفر، فإنه يمسح مسح مسافر.
وقال المزني: لا يجوز له أن يمسح مسح مسافر، بل يمسح مسح مقيم؛ لأنه قد اجتمع السفر والحضر في وقت المسح.
دليلنا: أنه سافر قبل أن يتلبس بالعبادة في وقتها، فكان الاعتبار بفعلها لا بدخول وقتها، كالصلاة.
وإن أحدث في الحضر وخرج وقت الصلاة، ثم سافر ومسح في السفر... ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: لا يستبيح مسح مسافر، بل يمسح مسح مقيم لا غير؛ لأن المقيم لو خرج عنه وقت الصلاة في الحضر، ثم سافر، فإنه يلزمه إتمام الصلاة، كما لو أحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر فإنه يلزمه أن يتم، فإذا كان خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة التلبس بالصلاة في الحضر في وجوب إتمامها، فكذلك خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزله تلبسه بالمسح في الحضر.
والثاني: قال أبو علي بن أبي هريرة: له أن يمسح مسح مسافر. وهو الصحيح؛ لأنه سافر قبل التلبس بالمسح، فكان له أن يمسح مسح مسافر، كما لو سافر قبل خروج وقت الصلاة. ويخالف الصلاة، فإنه يأتي بها بعد الوقت قضاء، والمسح يأتي به أداء في وقته.
وإن أحدث في الحضر ومسح، ثم سافر، أتم مسح مقيم لا غير، وبه قال أحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والثوري: (له أن يمسح مسح مسافر).
دليلنا: أنها عبادة تتغير بالحضر والسفر، فإذا تلبس بها في الحضر، ثم سافر كان الاعتبار بحكم الحضر، كما لو أحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر.
وإن أحدث في السفر ومسح، ثم أقام، أتم مسح مقيم لا غير، فإن أقام بعد استكمال مدة مسح المقيم، نزع الخفين. وإن أقام قبل استكماله، كان له أن يتم مسح مقيم لا غير.
وقال المزني: يمسح ثلث ما بقي له من المدة من حين الإقامة.
دليلنا: أنها عبادة تتغير بالحضر والسفر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر، كالصلاة.

.[فرع: نية الإقامة في الصلاة]

قال في "الأم" [1/30] (ولو مسح المسافر يوما وليلة، ثم دخل في الصلاة فنوى الإقامة في الصلاة، بطلت صلاته)؛ لأنه قد استكمل مسح المقيم، فإذا نوى الإقامة بطل مسحه، فبطلت صلاته.

.[فرع: الشك في ابتداء المسح]

وإذا سافر، ثم شك: هل ابتدأ المسح في السفر، أو في الحضر؟
بنى الأمر على أنه بدأ في الحضر؛ لتكون طهارته صحيحة بيقين، ولا يجوز له المسح بعد ذلك؛ لأنه شك في إباحته. فإن ذكر بعد ذلك أنه كان ابتداء المسح في السفر، أتم مسح مسافر.
فإن صلى بالمسح بعد يوم وليلة مع شكه، ثم تيقن بعد ذلك أن ابتداء المسح كان في السفر، لزمه إعادة ما صلى بالشك؛ لأنه صلاها وهو يعتقد أنه على غير طهارة، فلم يصح.
وإن شك: هل كان حدثه وقت الظهر أو وقت العصر؟
بنى الأمر على أنه كان حدثه وقت الظهر؛ ليرجع إلى اليقين.

.[فرع: لا يمسح في مدة الشك]

قال الشافعي رحمة الله: (فإن تيقن أنه صلى بالمسح ثلاث صلوات، وشك: هل صلى الرابعة أم لا؟ أعاد الرابعة، وأخذ في المسح بالأكثر).
وصورتها: أن يتيقن لابس الخف: أنه صلى العصر والمغرب والعشاء بطهارة المسح، وشك: هل أحدث وقت الظهر، وتوضأ للظهر ومسح وصلاها أم أغفلها ولم يصلها؟
فإن عليه إعادة الظهر؛ لأنه شك: هل صلاها أم لا؟ والأصل: أنه ما صلاها حتى يعلم أنه صلاها بيقين.
وأما المسح: فإنه يحتسب على أنه أحدث في وقت الظهر، فيكون له المسح إلى مثله من الغد، لأن هذا يقين، وما ذاد عليه شك: هل له فيه المسح أم لا؟ والأصل: أنه لا مسح حتى يعلم جوازه.

.[مسألة: وصف خف المسح]

ويجوز المسح على كل خف صحيح، يمكن متابعة المشي عليه، وهو: التردد عليه لحوائجه، سواء كان من جلد، أو لبد ثخين، أو خرق طبق بعضها فوق بعض، لأن الحاجة تدعو إلى لبسه.
قال الطبري: فإن لبس خفًا من زجاج، جاز المسح عليه، وإن بدا منه لون الرجل، وليس كمن يستر عورته بشيء من الزجاج يبدو منه لون العورة، فإنه لا يصح؛ لأن القصد ستر العورة، وأن لا تراها أعين الناس، وذلك لا يحصل في الزجاج. والقصد في الخف: لبس ما يمكن متابعة المشي عليه، وذلك يمكن في الزجاج.
قال الجويني: الواجب في الخف ستر الرجل مع الكعب من الجوانب، ومن أسفلها، ولا يجب سترها من أعلاها؛ لأن ذلك يتعذر، والواجب في العورة سترها من أعلاها ومن الجوانب لا من أسفل؛ لأن ذلك يتعذر.
وإن لبس خفًا لا يمكنه التردد عليه في حوائجه، إما: لرقته، أو لثقله، لم يجز المسح عليه؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه.

.[فرع: المسح على الخف المخرق]

وهل يجوز المسح على الخف المخرق؟ ينظر فيه:
فإن كان الخرق فوق الكعب.. جاز المسح عليه، لأن عدم ساق الخف لا يمنع من جواز المسح على الخف، فكذلك خرقه.
وإن كان الخرق في محل الفرض، فإن كان الخرق يمنع متابعة المشي عليه، لم يجز المسح عليه، لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه.
وإن كان الخرق لا يمنع متابعة المشي عليه.. ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يجوز) لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فأشبه الصحيح.
والثاني: قال في الجديد: (لا يجوز)، وهو الصحيح، لأن ما بدا من الرجل فحكمه حكم الغسل، وما استتر، حكمه حكم المسح، والجمع بينهما لا يجوز، كما لو بدت إحدى الرجلين، واستترت الأخرى.
وقال مالك: (إن كبر الخرق وتفاحش، لم يجز المسح عليه، وإن كان دون ذلك، جاز المسح عليه).
وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القديم، والأول حكاه الشيخ أبو حامد وابن الصباغ.
وقال أبو حنيفة: (إن تخرق قدر ثلاثة أصابع، لم يجز المسح عليه، وإن كان دونها، جاز المسح عليه، لأن الثلاث أكثر أصابع اليد).
دليلنا: أنه خف غير ساتر لجميع قدميه، فلم يجز المسح عليه، كما لو تخرق منه قدر ثلاثة أصابع.
وإن بقي في الخف مخارق الإشفى ومنافذ الإبر، فإن لم يبن شيء من الرجل، أو اللفافة، جاز المسح عليه، لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن كان يبين شيء من محل الفرض من الرجل، أو من اللفافة عليها، قال صاحب "الفروع": لم يجز المسح عليه.
قلت: وهذا إنما يكون على القول الجديد، فأما على القول القديم: فيجوز إذا كان يمكن متابعة المشي عليه.

.[فرع: خرق الظهارة]

قال في "الأم" [1/29] (وإن تخرقت ظهارة الخف وبقيت بطانته، جاز المسح عليه).
قال أصحابنا: أراد: إذا كانت البطانة صفيقة يمكن متابعة المشي عليها، فأما إذا كانت رقيقة بحيث لا يمكن متابعة المشي عليها، فإن المسح عليها لا يجوز.
وقال في "الأم" [1/31] (وإن كان في الخف شرج ـ بفتح الراء وبعده جيم ـ العرى، فوق الكعب، لم يمنع جواز المسح عليه، وإن كان الشرج تحت الكعب،
فإن كان محلولا، لم يجز المسح على الخف، سواء بانت منه الرجل، أو لم تبن، لأنه إذا مشى بانت منه الرجل، وإن كان مشدودًا، فإن كان في الشد خلل، بحيث إذا مشى بان شيء من الرجل أو اللفافة، لم يجز المسح عليه، وإن لم يكن فيه خلل، جاز المسح عليه).

.[فرع: المسح على الجورب]

قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا يمسح على جوربين، إلا أن يكون الجوربان مجلدي القدمين إلى الكعبين، حتى يقوم مقام الخف).
قال أصحابنا: والجوارب على ضربين:
فـالأول: منه ما يمكن متابعة المشي عليه، بأن يكون ساترًا لمحل الفرض صفيقًا، ويكون له نعل، فيجوز المسح عليه.
قال ابن الصباغ: فأما تجليد القدمين: فليس بشرط، إلا أن يكون الجورب رقيقًا.. فيقوم تجليده مقام صفاقته وقوته، وإنما ذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التجليد لأن الغالب من الجوارب الرقة.
والثاني: إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه، مثل: أن لا يكون منعل الأسفل، أو كان منعلا، لكنه من خرق رقيقة، بحيث إذا مشى فيه تخرق، لم يجز المسح عليه.
هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: (يجوز المسح على الجورب الصفيق، وإن لم يكن له نعل). وروي ذلك عن عمر، وعلي، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وداود.
دليلنا: أنه لا يمكن متابعة المشي عليه، فلم يجز المسح عليه، كالرقيق.

.[فرع: لبس الجرموق]

وإن لبس الجرموق فوق الخف، قال صاحب " المذهب ": وهو خف كبير فوق خف صغير ـ فإن كان الأسفل مخرقًا والأعلى صحيحًا، جاز المسح على الأعلى، لأن الأسفل بمنزلة اللفافة تحت الخف.
وإن كان الأعلى مخرقًا، والأسفل صحيحًا.. لم يجز المسح على الأعلى؛ لأن الأعلى بمنزله اللفافة فوق الخف.
وإن كانا صحيحين بحيث إذا انفرد كل واحد منهما، جاز المسح عليه، فهل يجوز المسح على الأعلى؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم، و " الإملاء ": (يجوز المسح عليه)، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، والمزني، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الموق».
و (الموق): الجرموق، ولأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فجاز المسح عليه، كالمنفرد.
والثاني: قال في الجديد: (لا يجوز المسح عليه) وبه قال مالك، وهو الصحيح، لأن حاجة عامة الناس لا تدعو إلى لبسهما، وإنما تدعو إليها حاجة خواص الناس، في مواضع مخصوصة، وهي: المواضع التي يكثر فيها المطر والوحل، والبرد الشديد، فلم تتعلق به رخصة عامة، كما لو لبس جبيرة فوق جبيرة، فإنه لا يجوز المسح على العليا.
وأما الخبر: فالمراد به الخف المنفرد، ولم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبس الجرموق. فإذا قلنا: يجوز المسح على الجرموق، فعن ماذا يكون بدلا؟
فيه ثلاثة أوجه، خرجها أبو العباس ابن سريج:
أحدها: يكون بدلا عن الخف، والخف يكون بدلا عن الرجل.
والثاني: يكون الجرموق بدلا من الخف، ويكون الخف بدلا من اللفافة.
والثالث: أن الجرموق بمنزلة طاقات الخف، وتأتي فوائد ذلك.
فإن لبس الجرموق في رجل واحدة، فهل يجوز المسح عليه؟
على القول القديم، فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\39].

.[فرع: المسح على الخف تحت الجرموق]

فإذا قلنا: لا يجوز المسح على الجرموق، فأدخل يده في ساقه، ومسح على الخف، فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما قال الشيخ أبو حامد: لا يصح، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (نزع الجرموقين، ومسح على الخفين)؛ ولأن الخف بدل ضعيف، فلم يجز مسحه مع استتاره.
والثاني: قال القاضي أبو الطيب: يصح، واختاره ابن الصباغ، كما لو أدخل يده تحت العمامة، ومسح على الرأس، ولأنه لو غسل رجله، وهي في الخف، صح، فكذلك إذا مسح على الخف، وهو في الجرموق، وما ذكره الشافعي، فليس ذلك على سبيل الشرط.
وإن قلنا: يجوز المسح على الجرموقين، فهل له أن يدخل يده في ساقه ويمسح على الخف؟ قال القاضي أبو الطيب: يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يجوز، لأنه إذا جاز المسح على الظاهر، لم يجز المسح على الباطن، كما لو أدخل يده في الخف ومسح على الجلد الذي يلي رجله.
والثاني: يجوز المسح ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ لأن كل واحد منهما محل للمسح، فجاز المسح على ما شاء منهما، كما لو مسح بشرة الرأس تحت الشعر.

.[فرع: الجبيرة تحت الخف]

وإن احتاج إلى وضع الجبيرة على رجليه فوضعها، ثم لبس فوقها الخف، فهل يجوز المسح عليه؟ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه لا يجوز، لأنه ملبوس فوق ممسوح، فلم يجز المسح عليه، كالعمامة.
والثاني: يجوز. وبه قال أبو حنيفة، لأنه خف صحيح، يمكن متابعة المشي عليه، فجاز المسح عليه، كما لو لبسه على رجليه ولا جبيرة عليهما.
فإن لبس الخف في إحدى الرجلين، والأخرى مريضة لا يجب غسلها، لم يجز المسح على الخف في الرجل الصحيحة.
إن قطعت إحدى الرجلين، جاز أن يلبس الخف في الرجل الباقية، ويمسح عليه إذا لم يبق من محل الفرض المقطوع شيء، وإن بقى شيء من محل الفرض، لم يجز المسح حتى يخففهما، لأن الرخصة إنما تتعلق بلبس الخفين في الرجلين مع وجودهما، لا يلبسه في إحداهما.

.[فرع: المسح على الخف المغصوب]

وإن لبس خفًا مغصوبًا، فهل يجوز المسح عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: قال ابن القاص: لا يجوز، لأن لبسه معصية، فلم يجز المسح عليه، كما لو لبس خفًا من جلد كلب.
والثاني: قال عامة أصحابنا: يجوز؛ لأنه خف طاهر يمكن متابعة المشي عليه، فهو كما لو كان ملكه.
وأما المعصية: فلا تختص باللبس، فلم تمنع صحة العبادة، كالصلاة في الدار المغصوبة، ويخالف الخف من جلد الكلب، لأن المعصية هنالك لمعنى في الخف، فهو كالصلاة في ثوب نجس.

.[مسألة: الطهارة شرط لمسح الخف]

ولا يجوز المسح على الخف، إلا أن يلبسه على طهارة كاملة.
فإن غسل إحدى الرجلين، وأدخلها في الخف، ثم غسل الرجل الأخرى، وأدخلها في الخف، لم يجز المسح حتى ينزع الخف الذي لبسه قبل كمال الطهارة.
وهل يشترط نزع خف الرجل الأخرى فيه وجهان:
الصحيح: أنه لا يشترط، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني، وأبو ثور، وداود: (يجوز المسح).
دليلنا: ما روى أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، إذا تطهر، فلبس خفيه أن يمسح عليهما». وهذا يقتضي تقدم الطهارة على اللبس.
وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، فأهويت لأنزع خفية، فقال: دعهما، فإني لبستهما وهما طاهرتان»، ومسح عليهما. فعلل بأنه لبس خفيه، ورجلاه طاهرتان، فعلم أن المسح يتعلق بهذا التعليل.

.[فرع: يشترط لبس الجرموقين على طهارة]

وإن لبس الخفين على طهارة، ثم لبس الجرموقين عليهما من غير حدث بينهما، وقلنا: يجوز المسح عليهما، جاز المسح هاهنا عليهما.
وإن لبس الخفين على طهارة ثم أحدث، ثم لبس الجرموقين قبل المسح، لم يجز المسح عليهما قولا واحدًا؛ لأنه لبسهما على حدث.
وإن لبس الخفين على طهارة، فأحدث، ومسح عليهما، ثم لبس الجرموقين، فهل يجوز المسح عليهما هاهنا؟ فيه وجهان، بناء على القولين في المسح على الخف هل يرفع الحدث؟
فإن قلنا: إنه يرفع الحدث، جاز المسح هاهنا. وإن قلنا: لا يرفع الحدث، لم يجز المسح هاهنا.

.[مسألة: لبس المستحاضة ونحوها الخف]

إذا دخل على المستحاضة وقت الصلاة المفروضة، فتوضأت، لبست الخفين، وصلت تلك الفريضة، جاز لها أن تصلي بتلك الطهارة ما شاءت من النوافل. فإن أحدثت بغائط أو بول أو نوم بعد أداء الفريضة، جاز لها أن تتوضأ، وتمسح على الخفين، وتصلي به ما شاءت من النوافل. فإن دخل عليها وقت الفريضة الثانية، فأرادت أن تتوضأ، وتمسح على الخفين، وتصلي به تلك الفريضة الثانية، لم يكن لها ذلك.
والفرق بين النافلة والفريضة الثانية: أنها حين توضأت للفريضة الأولى، استباحت بذلك الوضوء الفريضة الأولى، وما يتبعها من النوافل، فكانت في حكم الطاهرات في حق الفريضة الأولى، وما يتبعها من النوافل، فلذلك: استباحت النافلة بالمسح، ولا تستبيح أن تصلي بالطهارة الأولى الفريضة الثانية، فكانت في حكمها محدثة، فكذلك لم تستبحها بطهارة المسح.
وأما إذا توضأت للفريضة الأولى بعد دخول وقتها، ولبست الخفين، فقبل أن تصليها طرأ عليها حدث غير حدث الاستحاضة، كالغائط والبول والنوم والمس واللمس، فلها أن تتوضأ وتمسح على الخفين، وتصلي به تلك الفريضة، وما شاءت من النوافل، ولا تصلي به فريضة أخرى.
وقال زفر: لها أن تصلي به يومًا وليلة.
دليلنا: أن الطهارة التي لبست عليها الخفين لا تستبيح بها أكثر من فريضة واحدة، فلم تستبح بالمسح عليها أكثر منها، وإنما استباحت تلك الفريضة؛ لأنها كانت في حقها حين لبست الخف في حكم الطاهرات.
فإن انقطع دمها قبل أن تصلي تلك الفريضة، أو بعد ما صلتها وقبل أن تصلي النوافل، بطلت طهارتها، ووجب عليها نزع الخفين، واستئناف الطهارة؛ لأنها طهارة ضرورية، فإذا زالت الضرورة قبل التلبس بالصلاة، بطلت. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في "الإبانة": ق\39] إذا توضأت للفريضة، ولبست الخفين قبل أن تصليها، طرأ عليها حدث غير حدث الاستحاضة، فهل لها أن تمسح على الخف لهذه الفريضة؟ فيه وجهان، بناء على أن طهارة المستحاضة: هل ترفع الحدث السابق؟
فإن قلنا: ترفعه، استباحتها بطهارة المسح. وإن قلنا: لا ترفعه، لم تستبحها بطهارة المسح.
وإن تيمم للفريضة لعدم الماء، ولبس الخفين، ثم وجد الماء قبل الصلاة، ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو العباس: يجوز له أن يتوضأ ويمسح على الخفين، ويصلي به فريضة، كما قلنا في المستحاضة.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يجوز المسح على الخفين)؛ لأنه لبسهما من غير غسل الرجلين؛ ولأن برؤيته للماء، بطل التيمم، فصار كالمستحاضة إذا انقطع دمها.

.[مسألة: هيئة مسح الخف]

وإذا أراد أن يمسح على الخف، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فأحب أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه). وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك، وابن المبارك.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد: (المستحب: أن يمسح أعلى الخف، دون أسفلة). وروي ذلك عن أنس، وجابر.
دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة: قال: «وضأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فمسح أعلى الخف وأسفله»؛ ولأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض، فكان المسح عليه مسنونًا كأعلى الخف.

.[فرع: ما يسن مسحه من الخف]

وهل يسن له أن يمسح على عقب الخف، وهو: الموضع الصقيل؟
ظاهر ما نقله المزني: أنه يسن له ذلك. وقال القاضي أبو حامد: نص الشافعي في " البويطي ": أنه يمسح على العقب.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: لا يسن له أن يمسح عليه؛ لأنه موضع صقيل يضر به المسح.
والثاني: يمسح عليه، وهو الأصح؛ لأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض؛ فهو كأعلاه.
ومنهم من قال: يمسح عليه قولا واحدًا؛ لما ذكرناه. وما نقله المزني، يحتمل أن يريد به: أن يضع باطن أصابع يده اليسرى تحت عقب الخف، فتكون راحته على عقبه.

.[فرع: ما يكفي من المسح]

وكيفما أتى بالمسح على الخف، أجزأه، سواء كان بيده، أو ببعضها، أو بخشبة، أو بخرقة. وسواء مسح قليلا أو كثيرًا فإنه يجزئه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجزئه، إلا أن يمسح قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع)، فقدر الممسوح وعين الممسوح به، حتى إن عنده: لو مسح قدر ثلاث أصابع بأصبع واحدة لم يجزئه.
وقال زفر: إذا مسح قدر ثلاث أصابع بأصبع واحدة أجزأه، وقال أحمد: (لا يجزئه، إلا أن يسمح أكثر القدم).
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يومًا وليلة»، ولم يفرق.
فإن أصاب الخف بلل المطر، أو نضح عليه الماء، قال الشيخ أبو نصر: فليس للشافعي فيه نص، والذي يجيء على مذهبه: أنه لا يجزئه عن المسح.
وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه ذلك عن المسح.
وقال إسحاق: إن نوى به المسح، أجزأه.
وقال أهل الرأي: إذا خاض الماء، وأصاب ظاهر الخف، أجزأه.
واحتج الشيخ أبو نصر: بأن ما فرضه المسح لم يجز فيه الغسل، كمسح الرأس.
وعندي: أنها على وجهين، كما ذكر أصحابنا فيمن غسل رأسه مكان المسح.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن اقتصر على مسح القليل من أعلى قدم الخف، أجزأه؛ لأنه يقع عليه اسم المسح.
وإن اقتصر على مسح القليل من أسفله، ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: يجزئه؛ لأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض، فهو كأعلى الخف.
والثاني: قال أبو العباس: لا يجزئه، وهو المنصوص؛ لأنه موضع لا يرى من الخف غالبًا، فلم يجز الاقتصار عليه، كمسح باطن الخف الذي يلي الرجل.
وإن اقتصر على مسح القليل من عقب الخف فهل يجزئه؟
من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه محل لمسنون المسح، جاز الاقتصار عليه.
وإن قلنا: ليس بمحل لمسنون المسح فهل يجوز الاقتصار عليه؟ فيه وجهان.
وقال الشاشي: بل هو بالعكس، فإن قلنا: إنه ليس بمحل لمسنون المسح، لم يجز الاقتصار عليه وجهًا واحدًا، كساق الخف.
وإن قلنا: إنه محل لمسنون المسح، فهل يجوز الاقتصار عليه؟ فيه وجهان، كأسفله.